العربية
Perspective

رحيل ديك تشيني عن عمر ناهز 84 عامًا: مجرم حرب مهد الطريق لترامب

رحل ديك تشيني. سيُغمر الشعب الأمريكي الآن بسيلٍ من التكريم لنائب الرئيس السابق، كما هو متوقع، من المؤسسة السياسية ووسائل الإعلام الكبرى. ستُبذل كل الجهود لتطهير سجل مجرم حرب وعدوٍّ للحقوق الديمقراطية، ساهم في تمهيد الطريق لأفعال دونالد ترامب الديكتاتورية.

لا ينبغي لأحد أن ينخدع بالتبرئة الرسمية لتشيني من الدماء التي لطخت يديه. كان رجلًا جسد جشع وقسوة النخبة الرأسمالية الأمريكية، حيث شغل منصب رئيس موظفي البيت الأبيض، ووزير الدفاع، والرئيس التنفيذي لشركة خدمات حقول النفط العملاقة هاليبرتون، ثم نائب الرئيس في عهد جورج دبليو بوش، حيث كان بمثابة القوة الدافعة وراء العرش. لعب تشيني أدواراً قيادية في ثلاث حروب إمبريالية كبرى، ضد العراق في 1990-1991، وأفغانستان من عام 2001، والعراق مرة أخرى من عام 2003. إن عدد القتلى في هذه الحروب وحدها يصل إلى عدة ملايين، ناهيك عن الصراعات 'الأصغر'، مثل غزو الولايات المتحدة لبنما في عام 1989 والتدخل في الصومال في عام 1992.

كان تشيني رجل جهاز الدولة. ففي البداية، تلقى التوجيه والترقية من شخصية أخرى، وهو دونالد رامسفيلد، الذي أدخله إلى البيت الأبيض في إدارة فورد، حيث أصبح في النهاية رئيساً للأركان. وبعد هزيمة فورد في إعادة انتخابه، فاز تشيني بمقعد في الكونغرس عن ولاية وايومنغ عام 1978. ارتقى بسرعة إلى المركز الثاني في قيادة الحزب، قبل أن يعينه الرئيس جورج بوش الأب وزيراً للبنتاغون. هناك أشرف على حرب الخليج، أكبر تعبئة للقوات العسكرية الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية، بما يقرب من 600 ألف جندي. تسببت الأسلحة الأمريكية عالية التقنية، بما في ذلك قذائف الدبابات المزودة برؤوس اليورانيوم والقنابل والصواريخ الموجهة بالليزر، في مذبحة من جانب واحد للقوات العسكرية المجندة شبه العاجزة التي أرسلها الرئيس العراقي صدام حسين إلى الكويت.

بعد هزيمة بوش في إعادة انتخابه، أصبح تشيني الرئيس التنفيذي لشركة هاليبرتون، حيث جمع 40 مليون دولار خلال السنوات الثماني لإدارة كلينتون. ثم اختير من قبل جورج دبليو بوش نائباً له في عام 2000، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى أن سجله باعتباره محرضاً للحرب بلا رحمة ومديراً تنفيذياً لشركات طمأن قطاعات من النخبة الحاكمة التي شكت في قلة خبرة بوش الابن في أحد المجالين وافتقاره إلى النجاح في المجال الآخر.

بعد انتخابات عام 2000 المسروقة، عندما تدخلت المحكمة العليا لوقف فرز الأصوات في فلوريدا وتنصيب بوش وتشيني في السلطة، لم يُضِع نائب الرئيس وقتاً في مكافأة أتباعه من رجال الأعمال. أنشأ على الفور 'فريق عمل للطاقة' أُبقيت إجراءاته وحتى عضويته سرية. هناك، أعدّ مسؤولو شركات النفط وعملاء الاستخبارات العسكرية مجموعة من الأهداف للعدوان العسكري الأمريكي - سلسلة من 'حروب النفط' التي لم تتطلب سوى الذريعة اللازمة لشنها.

وفرت هجمات 11 أيلول/ سبتمبر 2001 الإرهابية التي نُفذت بمعرفة مسبقة رفيعة المستوى داخل جهاز الدولة الأمريكي تلك الذريعة، ليس فقط للحروب الإمبريالية في الخارج، لكن أيضًا لشن هجوم على الحقوق الديمقراطية للشعب الأمريكي في الداخل. وفي كلا النشاطين الإجراميين، لعب تشيني دوراً أساسياً. رداً على الهجمات الإرهابية التي نفذها مهاجمون انتحاريون معظمهم من المملكة العربية السعودية استهدفت إدارة بوش على الفور أفغانستان، حيث اقام زعيم القاعدة أسامة بن لادن مقراُ له. وبدعم من الحزبين، أقر الكونجرس قرارًا بالحرب يجيز غزو الولايات المتحدة واحتلالها لأفغانستان، بالإضافة إلى 'الحرب على الإرهاب' التي لا تزال سارية حتى يومنا هذا. وبالمثل، وافق الديمقراطيون والجمهوريون، بالإجماع تقريباً، على قانون باتريوت، الذي منح الرئيس الأمريكي سلطات واسعة لأمر مراقبة واحتجاز 'الإرهابيين' المزعومين داخل الولايات المتحدة، مع القليل من الرقابة القضائية.

ما كانت أفغانستان إلا حجر عثرة في طريق صراع أكبر وأكثر دموية: غزو الولايات المتحدة للعراق واحتلاله. ففي حين امتلكت أفغانستان ثروة معدنية هائلة ظلت غير مستغلة إلى حد كبير، كان العراق واحداً من أكبر الدول المنتجة للنفط وأكثرها ربحية، وجائزة كبيرة للنهب الإمبريالي. لعب تشيني الدور الرئيسي في نشر الأكاذيب حول 'أسلحة الدمار الشامل' والصلات المزعومة بين صدام حسين والقاعدة. (كان الاثنان في الواقع عدوين لدودين). تبنت وسائل الإعلام الكبرى تلك الأكاذيب، إذ لعبت صحيفة نيويورك تايمز الدور القيادي، واحتضنها الكونجرس، الذي منح الإذن بالحرب على العراق بتصويت من الحزبين في أكتوبر 2002. وبعد أقل من خمسة أشهر، غزت القوات الأمريكية العراق، في انتهاك صارخ للقانون الدولي، وفي تحد للاحتجاجات الجماهيرية، سواء في الولايات المتحدة أو في جميع أنحاء العالم، وحشدت الملايين.

كان تشيني المهندس والمدافع الرئيسي عن الإطار القانوني والإداري الذي مكّن من ارتكاب تلك الجرائم. لقد بنى ودافع عن بنية الفوضى: مبدأ الحرب الاستباقية، والأسس القانونية لـ'الاستجواب المعزز'، والتسليم الاستثنائي، والاحتجاز لأجل غير مسمى، ودولة المراقبة. كان تشيني المشرف الفكري والسياسي على أنظمة التعذيب. بلغ نظام الإساءة هذا ذروته البشعة في أبو غريب، ورُسخت أساليبه في السجون السرية و'المواقع السوداء' التابعة لوكالة المخابرات المركزية. كانت همجية الدولة هي سياسته.

عندما سُئل عن المعارضة الشعبية المتزايدة لحرب العراق، التي انعكست في المظاهرات واستطلاعات الرأي والهزيمة الساحقة التي لحقت بالجمهوريين في انتخابات التجديد النصفي لعام 2006، أجاب تشيني ببرود: 'وماذا في ذلك؟' وكما علّق موقع الاشتراكية العالمية آنذاك، فإن تعليق تشيني 'أعطى تعبيراً... عن ازدرائه المطلق لإرادة الشعب الأمريكي'.

لم يُواجَه تشيني بالتوبيخ إلا عندما دخل في صراع مع جهاز الاستخبارات العسكرية، كما كُشِف في قضية جو ويلسون، الدبلوماسي الأمريكي السابق الذي زار النيجر نيابةً عن إدارة بوش، بحثاً عن أدلة على مشتريات عراقية من اليورانيوم، لكنه مأ وجد شيئاً. بعد أن انشق ويلسون علناً عن الإدارة وانتقد الحرب، شنّ تشيني هجوماً مضاداً. سُرِبَت هوية زوجة ويلسون، فاليري بليم، العميلة السرية لوكالة المخابرات المركزية، إلى الصحافة، إلى جانب حملة تشويه أشارت إلى أنها دبرت الرحلة إلى النيجر كمكافأة لزوجها. احتشد الديمقراطيون في الكونجرس ووكالات الاستخبارات لدعم العميل 'المُكشوف'، واضطرت إدارة بوش إلى التحقيق في التسريب، وأُدين لويس ليبي، رئيس موظفي تشيني، في النهاية بالكذب على هيئة محلفين كبرى.

في حين أثرت هذه القضية على مكانة تشيني الشخصية، إلا أن التدابير التي روج لها لتعزيز الحرب والقمع الداخلي ظلت قائمة. واصلت إدارة أوباما وبايدن الحروب في أفغانستان والعراق وأضافت حروباً جديدة ضد ليبيا الغنية بالنفط، وحرباً بالوكالة ضد سوريا، الدولة العميلة الوحيدة لروسيا في الشرق الأوسط. ولا تزال تراخيص استخدام القوة العسكرية، التي صدرت في عامي 2001 و2002، سارية المفعول.

وقد تضخم جهاز المراقبة والقمع الداخلي بأكمله إلى حجم غير مسبوق. بدأ أوباما ولايته بإنهاء أي إمكانية لمقاضاة معذبي وكالة المخابرات المركزية وأولئك الذين أصدروا لهم الأوامر، مثل تشيني. وأذن بعمليات اغتيال بصواريخ بدون طيار، بما في ذلك اغتيال مواطنين أمريكيين، مع وضع قوائم قتل والموافقة عليها في 'أيام الثلاثاء الإرهابية' في البيت الأبيض. وكما كشف المبلغون الشجعان مثل تشيلسي مانينغ وإدوارد سنودن، فإن العمليات السرية التي تنفذها الحكومة الأميركية ضد سكان العالم بأكمله، بما في ذلك الشعب الأميركي، توسعت بشكل كبير.

لقد بلغ تطور الدولة البوليسية الأمريكية، الذي ازداد زخمًا في عهد بوش وتشيني واستمر في عهد أوباما وترامب وبايدن، ذروته في ولاية ترامب الثانية. وتُثبت هذه الحقيقة في حد ذاتها أن تشيني ما كان مسؤولاً مارقاً، بل كان ممثلاً للطبقة الاجتماعية الحاكمة، الأرستقراطية المالية التي تُسيطر على الحزبين الرأسماليين، الديمقراطيين والجمهوريين، التي تلجأ إلى الديكتاتورية للدفاع عن ثروتها وسلطتها في وجه الطبقة العاملة.

عندما غادر تشيني منصبه في كانون الثاني 2009، كان من بين أكثر الشخصيات المكروهة في أمريكا والعالم. ارتبط اسمه في وجدان الناس ارتباطاً وثيقاً بالجرائم البشعة المرتكبة ضد أناس عزل، في الداخل والخارج. لم يكن هذا سوء فهم. فبناءً على المبادئ التي أُرسيت في محكمة نورمبرغ بعد الحرب العالمية الثانية، ينبغي تطبيق العقوبات نفسها التي أُنزلت بمجرمي الحرب النازيين على قادة أي دولة ترتكب جرائم مماثلة: شن حروب عدوانية والقتل الجماعي المتعمد والإبادة الجماعية. لو طُبقت سابقة نورمبرغ لعام 1946 بثبات، لانتهى مسار تشيني المهني في زنزانة سجن أو قيد الإعدام.

في السنوات الأخيرة من حياته، اقترب تشيني وابنته ليز من الحزب الديمقراطي. ففي عام 2024، أعلن تشيني الأب أنه سيصوت لكامالا هاريس. لم يكن هذا، كما صوّرته وسائل الإعلام، عملاً مبدئياً ودفاعاً عن 'الديمقراطية' ضد انقلاب ترامب. في الواقع، كان الدافع الحقيقي لتشيني هو انحيازه إلى الشاغل الرئيسي للديمقراطيين، ألا وهو حرب الولايات المتحدة وحلف الناتو ضد روسيا.

كشف رد فعل الحزب الديمقراطي على وفاة تشيني عن طابعه الرجعي المؤيد للإمبريالية. أصدرت نائبة الرئيس السابقة هاريس بياناً أعلنت فيه: 'كان تشيني موظفاً عاماً مخلصاً، شغل مناصب قيادية عديدة في إدارات رئاسية متعددة. وفاة هذا الشخصية تمثل خسارة كبيرة، فقد كرس حياته بروح من التفاني العظيم للبلد الذي أحبه '.

أكدت كل كلمة في هذا التأبين المُقزز تطابق المصالح بين الديمقراطيين والجمهوريين كحزبين، حزبي وول ستريت والحرب. بالنسبة لهاريس وحزبها، تُحتفى بحياة تشيني الإجرامية - من غزو وتعذيب وأكاذيب - لأنها جسّدت السعي الدؤوب للهيمنة الإمبريالية الأمريكية.

مهما كانت الخلافات التكتيكية التي نشأت بين تشيني وترامب، فإنهما مرتبطان بعمليات اجتماعية وسياسية أعمق: انحدار الرأسمالية والإمبريالية الأمريكية إلى الهمجية والإجرام. تعيش المؤسسة السياسية بأكملها في ظل الجرائم التي ساهم تشيني في إطلاقها.

إن الحركة النامية للطبقة العاملة، المسلحة ببرنامج اشتراكي، سوف تصفي الحسابات مع تشيني وأمثاله والأوليغارشية الرأسمالية التي يمثلونها.

Loading