يُعدّ الأمر التنفيذي الذي أصدره الرئيس الأمريكي ترامب مساء الخميس، وفرض رسوماً جمركية شاملة على جميع الشركاء التجاريين للولايات المتحدة تقريباً، علامة فارقة في تدهور وانهيار الرأسمالية الأمريكية والعالمية.
أقامت الولايات المتحدة الآن سوراً جمركياَ حول نفسها يُضاهي الجدار الذي فرضته، بعواقب وخيمة اقتصادياً وسياسياً خلال الكساد الكبير في العقد الرابع من القرن الماضي، الذي لعب دوراً حاسماً في تهيئة الظروف لاندلاع الحرب العالمية الثانية، أكبر مذبحة في تاريخ البشرية.
لن تكون عواقب حرب ترامب الاقتصادية على العالم أقل خطورة. ستؤدي إلى انزلاق سريع نحو صراع اقتصادي حاد، الأمر الذي سيؤدي حتمًا إلى اندلاع حرب.
في الواقع، قد يكون الوضع أشد خطورة مما كان سائداً في العقد الرابع من القرن الماضي. ففي ذلك الوقت، اقتصرت التجارة الدولية بشكل كبير على تصدير واستيراد المواد الخام والسلع النهائية. وأُنجز الإنتاج الصناعي إلى حد كبير داخل الحدود الوطنية.
أما اليوم، فلا توجد سلعة يُمكن القول إنها أُنتجت في بلد معين. فكل سلعة، من أبسطها إلى أعقدها، تُنتج على نطاق عالمي. أصبح العالم كياناً اقتصادياً متكاملاً، وأصبحت الطبقة العاملة كذلك متكاملة وموحدة موضوعياً.
لكن هذا التطور، عولمة الإنتاج وتطور سلاسل التوريد المعقدة التي تتقاطع عبر البلدان والقارات، رفع إلى ذروة جديدة من الشدة تناقضاً محورياً في النظام الرأسمالي العالمي، هو التناقض بين الاقتصاد العالمي وتقسيم العالم إلى دول وطنية متنافسة وإلى قوى إمبريالية.
تُشير إجراءات ترامب إلى التدمير الكامل لنظام التجارة الذي نشأ بعد كوارث العقد الرابع من القرن الماضي والحرب العالمية الثانية، الذي سعى إلى احتوائها. كما قال أحد مسؤولي الإدارة: 'هذا نظام تجاري جديد'.
وهذا صحيح بالتأكيد. ولا يُمكن إدراك المغزى الكامل لإجراءات ترامب وفهمها إلا عند وضعها في سياقها التاريخي.
استند النظام التجاري لما بعد الحرب إلى تخفيض الرسوم الجمركية وإزالة القيود. ما هدفت تلك الآليات إلى تعزيز النمو الاقتصادي فحسب، بل كان لها مضمون جيو-سياسي عميق. استندت إلى فهم مستمد من تجربة العقد الرابع من القرن العشرين، مفاده أن النظام الاقتصادي العالمي الذي تسعى فيه كل دولة إلى حماية مصالحها الوطنية والنهوض بها من خلال الرسوم الجمركية وغيرها من التدابير التقييدية، يؤدي حتماً إلى صراع عسكري.
ارتكز نظام ما بعد الحرب على الهيمنة الاقتصادية للرأسمالية الأمريكية، التي استخدمت قدرتها الصناعية الهائلة لإعادة بناء السوق العالمية التي أصبحت تعتمد عليها بشكل حيوي. لكن مفهوم 'السلام الأمريكي' احتوى على تناقض لا حل له.
لقد قوّض انتعاش الاقتصاد العالمي، ثم توسّعه، هيمنة الولايات المتحدة بشكل مطرد. وقد أدّى هذا التراجع الكمي، الممتدّ على مدى عقود، إلى نقطة تحوّل نوعيّة، حيث لا تواجه الولايات المتحدة منافسين قدامى فحسب، كأوروبا واليابان، بل منافسين جدد كالصين.
إنّ الحرب الاقتصادية التي شنّها ترامب ليست نتاجاً لعقله المحموم أو لعقل مستشاريه الفاشيين فحسب.
إنّ أفعاله تعبير عن أزمة وجودية تواجه الإمبريالية الأمريكية، التي تفاقمت قبل ظهوره على الساحة بوقت طويل.
تجسّد ذلك في تحوّل الولايات المتحدة من قوّة صناعية عالمية إلى مركز للتطفّل المالي، تجلّى في سلسلة من العواصف والأزمات، بدءاً من انهيار سوق الأسهم تشرين الأول / أكتوبر1987، مروراً بانهيار قطاع التكنولوجيا في عامي 2000 و2001، والانهيار المالي عام 2008، وتجميد سوق سندات الخزانة في آذار/ مارس 2020 مع بداية الجائحة.
لا تمتلك الإمبريالية الأمريكية برنامجاً اقتصادياً لحل هذه الأزمة، لا من خلال التعريفات الجمركية ولا أي إجراءات أخرى، بل إنها مدفوعة إلى استخدام الوسائل الميكانيكية.
تجلى الطابع العسكري لأمر ترامب التنفيذي الخاص بحرب ترامب الجمركية في جميع أنحاء العالم.
فهو أشار إلى تأثير ما يُسمى بغياب المعاملة بالمثل من جانب شركاء التجارة الأجانب على 'قاعدة التصنيع المحلية، وسلاسل التوريد الحيوية، وقاعدة التصنيع الدفاعي'.
وتضمن الأمر إشارات إلى ضرورة انسجام جميع الدول التي تسعى إلى التجارة مع الولايات المتحدة معها في 'المسائل الاقتصادية ومسائل الأمن القومي'. بعبارة أخرى، يجب أن تتكامل هذه الدول تماماً مع مساعي الولايات المتحدة للحفاظ على مكانتها كقوة إمبريالية مهيمنة، ولا سيما في معركتها ضد الصين، وإلا ستتعرض لضربة اقتصادية قاسية.
ففي حالة الهند، على سبيل المثال، انتقد ترامب حكومة مودي بشدة لـ'شرائها النفط والأسلحة الروسية'.
وكشفت التعريفة الجمركية البالغة 50% المفروضة على البرازيل بوضوح تام عن الأجندة الكامنة وراء ذلك. فقد فُرض عليها تعريفة بنسبة 50% على الرغم من أنها واحدة من الدول القليلة التي تتمتع الولايات المتحدة بفائض تجاري معها.
لكنها في مرمى نيران ترامب بسبب الإجراء القضائي ضد حليفه الفاشي جايير بولسونارو بسبب محاولته الانقلابية، ولأن البرازيل واحدة من أبرز أعضاء مجموعة دول البريكس التي تسعى إلى إيجاد وسائل بديلة للتمويل الدولي خارج نظام الدولار.
وكما قال ترامب في عدد من المناسبات، فإن فقدان هيمنة الدولار ، وهو أمر حيوي لقدرة الولايات المتحدة على الاستمرار في تراكم الديون الهائلة ، سيكون بمنزلة خسارة حرب.
قبل ما يقرب من قرن من الزمان، أوضح ليون تروتسكي أن هيمنة الإمبريالية الأمريكية ستتجلى بشكل علني وعنيف ليس في فترة الازدهار، بل في فترة الأزمة.
تحقق هذا التحذير النبوئي، وتجلى ذلك في طبيعة ما يسمى بالصفقات التي ليست نتيجة للمفاوضات، بل هي نتاج الإملاءات التي وضعها ترامب والتي يجب على الدول الأخرى الامتثال لها أو التعرض لعقوبات خانقة.
تجلى ذلك بوضوح في 'الصفقة' المبرمة مع الاتحاد الأوروبي، التي رضخ فيها لمطالب ترامب تحت تهديد فرض رسوم جمركية كانت ستؤدي إلى عزله تماماً عن الأسواق الأمريكية.
تراجع الاتحاد الأوروبي في مواجهة حرب تجارية شاملة ما كان مستعداً لها بعد. لكن هذا الاستسلام قوبل بإدانة، تجسدت في تصريحات رئيس الوزراء الفرنسي فرانسوا بايرو بأن الكتلة 'استسلمت للخضوع'.
ورغم ادعاء رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، بأن 'الصفقة' جلبت اليقين، فإن الطبقات الحاكمة الأوروبية تدرك أن الهيجان قد بدأ للتو، وأن أجندة الإمبريالية الأمريكية هي إخضاعهم بالكامل واليابان بدورها ضمن نطاق الاستهداف. لا يمكن لمنافسي الإمبريالية الأمريكية، قبول، برنامجاً يُسحقون فيه باستمرار، وهم لن يقبلوه.
وعلى هذا ما اقتصر الأمر على زراعة بذور حرب إمبريالية جديدة فحسب، بل بدأت البذور تنبت .
فخلال القرن العشرين، خاضت الإمبريالية الألمانية حربين ضد الولايات المتحدة، وانخرطت اليابان في صراع دموي خلال الحرب العالمية الثانية للسيطرة على منطقة آسيا والمحيط الهادئ. و تم قمع هذه التناقضات واحتواؤها خلال فترة ما بعد الحرب، لكن أسسها برزت الآن، وهي على وشك الظهور على السطح مرة أخرى كما حدث في العقد الرابع من القرن الماضي.
ولكن هناك فرق جوهري بين تلك الفترة والوضع الراهن، يجب على الطبقة العاملة إدراكه وهي تواجه المخاطر الجسيمة التي تواجهها الآن.
ففي العقد الرابع من القرن الماضي، عانت الطبقة العاملة من هزائم فادحة، لا سيما مع وصول النازيين إلى السلطة في ألمانيا. أما اليوم، فلم تُهزم الطبقة العاملة أو تُحبط معنوياتها. فهناك حركة يسارية متنامية حول العالم، ومشاعر مناهضة للرأسمالية تتعمق، وتوجه نحو حل اشتراكي، لا سيما بين الشباب.
والمهمة الأساسية هي تسليح هذه الحركة بمنظور واضح. يجب أن يرتكز هذا على فهم أن الأزمة لا تنبع من ميول ترامب، بل من الإفلاس التاريخي للنظام الرأسمالي بأكمله ونظام الدولة القومية.
لذا، لا يمكن حل الأزمة إلا من خلال النضال من أجل منظور أممي قائم على توحيد الطبقة العاملة في النضال السياسي من أجل برنامج اشتراكي، شعاره 'العدو الرئيسي في الداخل'.
بالنسبة للطبقة العاملة الأمريكية، هذا يعني مباشرةً النضال ضد الأجندة القومية التي يروج لها ترامب. فرغم كل ادعاءاته بأن حروبه الجمركية ستعيد عظمة أمريكا وسترفع من شأن العمال، إلا أن الحقائق الاقتصادية الموضوعية للحياة تُشير إلى خلاف ذلك. فالرسوم الجمركية ترفع هيكل تكاليف الصناعة الأمريكية، وهو ما يُجبر أصحاب العمل على محاولة التغلب عليه من خلال هجمات واسعة النطاق على الوظائف وظروف العمل للحفاظ على أرباحهم.
وبالمثل، يجب على العمال في جميع أنحاء العالم رفض ومواجهة منظور طبقاتهم الحاكمة 'الخاصة' القائل بأن الطريق للمضي قدماً في الحرب الاقتصادية التي تشنها الإمبريالية الأمريكية هو التقدم ببرنامج قومي. هذا هو الطريق إلى الكارثة.
إن منظور الثورة الاشتراكية العالمية الذي طرحته اللجنة الدولية للأممية الرابعة، الحركة التروتسكية العالمية، ليس هدفاً طوباوياً. فمع بدء احتضار الرأسمالية، المتمثل في حرب ترامب، مرحلة جديدة وأكثر خطورة، أصبح هذا هو البرنامج الوحيد القابل للتطبيق والواقعي في الوقت الراهن. والمهمة الحاسمة هي بناء القيادة اللازمة للنضال من أجله.