في البداية، كان الأمر لا يتجاوز همسات هادئة في قطاعات معزولة نسبيا من الصحافة المالية. أما اليوم، فقد ارتفعت الأصوات: قد يفقد الدولار الأمريكي دوره كعملة عالمية في ظل انهيار جميع ترتيبات وآليات فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية تحت وطأة الحرب الاقتصادية الأمريكية على العالم التي بدأها الرئيس ترامب.
هذا الأسبوع، نشرت صحيفة فاينانشال تايمز (FT) مقالًا رئيسياً بعنوان 'هل فقد العالم ثقته بالدولار الأمريكي الجبار؟'. وكان الجواب نعم.
أثار هذا القلق تطور غير عادي في الأسواق المالية. ففي ظل الظروف 'العادية'، تؤدي الاضطرابات المالية إلى ارتفاع قيمة الدولار، إذ يبحث المستثمرون عن ملاذ آمن ويتجهون إلى شراء سندات الخزانة الأمريكية.
ولكن منذ ما سُمي بـ 'يوم التحرير'، عندما كشف ترامب عن 'الرسوم الجمركية المتبادلة'، كان هناك تحرك للخروج من ديون الحكومة الأمريكية، وانخفضت قيمة الدولار. يستمر سعر الذهب، وهو مخزن حقيقي للقيمة، على عكس الديون والائتمان، في الوصول إلى مستويات قياسية. كان هناك تباطؤ في هذه الحركة عندما أعلن ترامب عن توقف لمدة 90 يوماً للرسوم الجمركية المتبادلة، التي تراوحت بين 30 و50 في المئة لمجموعة واسعة من البلدان، للسماح بالمفاوضات. لكن يبقى السؤال: ماذا يحدث بعد انتهاء التوقف؟
بغض النظر عن الإجابة الفورية، هناك شيء واحد مؤكد: لن تكون هناك عودة إلى الوضع الذي قام سابقاً، مع تحذير ترامب من أنه لا أحد 'يفلت من العقاب'. جرت هذا الأسبوع، محادثات بين الإدارة واليابان في واشنطن. عاد الممثل التجاري الياباني إلى بلاده خالي الوفاض.
سُلِّط الضوء على تداعيات الوضع الجديد في تعليقٍ لكاتبةٍ بارزةٍ في صحيفة 'فاينانشيال تايمز'، رنا فوروهار، بعنوان 'أمريكا غير المستقرة'.
بدأت فوروهار حديثها بالقول إن 'الاستنتاج' الذي استخلصته من فوضى الرسوم الجمركية وتداعياتها هو أن أمريكا، في عهد ترامب، أصبحت 'سوقاً ناشئة'.
في فتراتٍ سابقةٍ من التوتر السياسي والاقتصادي، ارتفعت الأسهم والعملة الأمريكية بفضل 'وضع الدولار كملاذٍ آمن'.
'ما كان من المهم أن جميع العوامل التي دعمت الشركات الأمريكية، من أسعار الفائدة المنخفضة إلى الهندسة المالية ووصولاً إلى العولمة نفسها، قد استُنفدت. بدت أسواق الأصول الأمريكية منيعةً أمام فكرة سيناريو يوم قيامة الدولار الذي من شأنه أن يُؤدي إلى انهيار كلٍّ من العملة وأسعار الأصول. لقد أنهى ترامب أخيراً الامتياز الباهظ الذي تمتعت به أمريكا'.
واختتمت حديثها قائلةً إنها استبعدت سابقاً احتمال أن تصبح أمريكا بؤرةً لأزمة ديون على غرار أزمة الأسواق الناشئة، ولكن 'ما عادت تستبعده بعد الآن'.
ستُضيف إجراءات ترامب، من زيادات الرسوم الجمركية التي ستُبطئ الاقتصاد والتخفيضات الضريبية المقترحة للشركات، تريليونات الدولارات إلى ما يُوصف بشكل متزايد بأنه جبل ديون 'غير قابل للاستدامة'، بلغ حالياً 36 تريليون دولار ويتابع ارتفاعه.
ففي تقرير صدر في وقت سابق من هذا الشهر، لخّص جورج سارافيلوس، الرئيس العالمي لأبحاث صرف النقد الأجنبي في دويتشه بنك، التوقعات المتنامية في الأوساط المالية العالمية الرائدة.
وكتب في تقرير: 'على الرغم من تراجع الرئيس ترامب عن الرسوم الجمركية، فقد لحق الضرر بالدولار الأمريكي'. 'يُعيد السوق تقييم الجاذبية الهيكلية للدولار كعملة احتياطية عالمية، ويمر بعملية نزع الدولرة'.
ومع ذلك، فإن الأزمة ليست مجرد نتاج لأفعال ترامب، بل هي في طور التكوين منذ فترة طويلة، نتيجة تدهور مطول في الوضع الاقتصادي للولايات المتحدة.
وكما صار يُعترف به الآن علناً، فقد عمد ترامب إلى تقليص الآليات الاقتصادية والتجارية والمالية التي وُضعت بعد الحرب العالمية الثانية، معتبراً أنها ساهمت بشكل حاسم في إضعاف الولايات المتحدة.
وبالطبع، فإن ترامب، الذي يرى، مثل هنري فورد، أن 'التاريخ مجرد هراء'، لا يشرح أبداً سبب تدهور وضعها، ولماذا لعبت الولايات المتحدة الدور القيادي في تأسيسها. كان السبب، على حد تعبيره، هو مخاوف تعلقت بـ'الأمن القومي'.
كان الهدف من إجراءات ما بعد الحرب العالمية الثانية منع عودة الأوضاع التي سادت في فترة ما بين الحربين، انطلاقاً من إدراك أن ذلك سيؤدي إلى نضالات ثورية للطبقة العاملة في الدول الرأسمالية الكبرى، بما فيها الولايات المتحدة، التي شهدت تفجراً هائلاً للصراعات الطبقية في أواخر العقد الرابع من القرن العشرين.
ارتكز النظام الاقتصادي لما بعد الحرب العالمية الثانية على ثلاثة ركائز أساسية: إرساء الدولار الأمريكي، المدعوم بالذهب عملة دولية، وخفض التعريفات الجمركية وتعزيز التجارة الحرة لمنع نشوب حروب التجارة والعملات التي أثبتت نتائجها الكارثية في العقد الرابع من القرن العشرين، وإعادة إعمار أوروبا التي مزقتها الحرب في إطار خطة مارشال. و استندت هذه الركائز الثلاثة إلى قوة الاقتصاد الأمريكي وقدرته الصناعية. وعلى النقيض من ادعاءات العديد من الاقتصاديين البرجوازيين وعدد غير قليل من الماركسيين الذين زعموا أن الطفرة الاقتصادية الرأسمالية التي أعقبت الحرب العالمية الثانية دحضت التحليل الماركسي للانهيار الاقتصادي الحتمي تاريخياً للنظام الرأسمالي، فإن الإطار الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية لم يتغلب على تناقضاته الأساسية، وأهمها التناقض بين السوق العالمية وانقسامها إلى دول قومية متنافسة وقوى عظمى.
وفي غضون 25 عاماً، وهي فترة زمنية قصيرة من وجهة نظر التاريخ، ظهرت هذه التناقضات. ففي 15 أغسطس 1971، أزال الرئيس نيكسون، في مواجهة عجز متزايد في ميزان التجارة وميزان المدفوعات في الولايات المتحدة، الغطاء الذهبي للدولار الأمريكي ، لاغياً من جانب واحد اتفاقية برايتون وودز لعام 1944.
كانت هذه علامة على أن قوة الرأسمالية الأمريكية، أساس نظام ما بعد الحرب، بدأت تضعف بشكل ملحوظ.
أدى إلغاء نظام برايتون وودز إلى ظهور نظام مالي عالمي جديد. ففي العقدين السادس والسابع من القرن الماضي، تم تبادل العملات بأسعار ثابتة. تطلب الحفاظ على هذه الأسعار الثابتة ومنع حروب العملات إخضاع التدفقات المالية والاستثمارية لرقابة صارمة.
ولكن مع انتهاء ارتباط الدولار بالذهب، بدأت العملات في التعويم بحرية، مما يعني أنه كان لا بد من إلغاء الضوابط الرأسمالية والمالية بشكل متزايد. نشأ نظام اقتصادي دولي جديد اعتمد على خلق الائتمان والتدفق الحر للأموال حول العالم.
استمر الدولار الأمريكي في أداء دوره أساساً للنظام المالي الدولي، إلا أنه شهد تحولاً كبيراً. فقد أصبح عملة ورقية، ما عادت مدعومة بالذهب، أي بالقيمة الحقيقية، بل بالدولة الأمريكية وحدها. وبرز نظام نقدي عالمي جديد.
وكما أشارت مقالة فاينانشال تايمز: 'على الرغم من قطع نيكسون ارتباط الدولار بالذهب عام 1971، ظلّ الدولار الأمريكي في قلب النظام النقدي. في الواقع ازدادت أهمية الدولار الأمريكي ، بفضل أهميته في النظام المالي العالمي المتوسع والمترابط بشكل متزايد. وبدلاً من أن تُضعف صدمة نيكسون أهمية الدولار، فقد رسّخته بطرق عديدة'.
أدى تحرير الدولار من القيود المفروضة عليه بسبب ارتباطه بالذهب، وما صاحب ذلك من لوائح حكومية تهدف إلى الحفاظ على نظام صرف ثابت، إلى تحرير القطاع المالي من القيود المفروضة عليه في ظل النظام السابق، مما فتح آفاقاً جديدة واسعة لتراكم الأرباح. و أدى هذا بشكل متزايد، ولاسيما في الاقتصاد الأميركي، إلى ظهور ما سُمي بالنزعة المالية، أي تراكم الأرباح من خلال أساليب المضاربة ونشاطات طفيلية.
كلما تطورت هذه الأساليب، أُلغيت المزيد من اللوائح المتعلقة برأس المال المالي التي فُرضت استجابةً لأزمة العقد الرابع من القرن العشرين، وبلغت ذروتها بإلغاء آخر تشريعات عصر الكساد، وهو قانون جلاس-ستيغال، من قِبل إدارة كلينتون عام 1999.
في عام 1991، أدى تفكك الاتحاد السوفيتي على يد البيروقراطية الستالينية، إلى جانب استعادة الرأسمالية في الصين وإلغاء الأنظمة القومية البرجوازية في المستعمرات السابقة لسياسات التنمية الوطنية، إلى فتح فرص ربح جديدة من خلال عولمة الإنتاج.
ولحرصها على اغتنام هذه الفرص، دعت الولايات المتحدة إلى انضمام الصين إلى النظام العالمي الجديد. وضغطت إدارة كلينتون من أجل انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية، الذي صادقت عليه الولايات المتحدة لاحقاً برئاسة جورج دبليو بوش.
رأت الولايات المتحدة أن العمالة الرخيصة في الصين منجم ذهب للربح، وأن الصين ستظل خاضعة لها في ظل النظام الجديد. لكن الاقتصاد الرأسمالي لديه منطقه الخاص الذي لا هوادة فيه، والذي يعمل من وراء ظهر الزعماء الإمبرياليين، مهما كانت قوتهم.
أدركت الأوليغارشية الرأسمالية الصينية، التي تواجه الآن تحول البلاد من دولة فلاحية إلى دولة تضم مئات الملايين من العمال، بالإضافة إلى طبقة متوسطة طموحة، ضرورة الارتقاء بسلسلة القيمة.
ما كان بإمكانها الاكتفاء بتوريد السلع الاستهلاكية الرخيصة، بل كان عليها توسيع إنتاجها ليشمل سلعاً أكثر تطوراً تعتمد على التكنولوجيا المتقدمة، وذلك إذا أرادت استدامة النمو الاقتصادي والحفاظ على ما أسمته 'الاستقرار الاجتماعي'.
مع ذلك، شكّل هذا التطور تحدياً وجودياً للهيمنة الأمريكية. و أدركت إدارة أوباما ذلك في عام 2011 عندما أطلقت توجهها نحو آسيا. كتب ممثلها التجاري مايكل فرومان مقالاً في مجلة الشؤون الخارجية عام 2014، أقر فيه بضعف موقف الولايات المتحدة، وبضرورة 'إنعاش' النظام التجاري العالمي لتمكينها من لعب دور قيادي.
إلا أن هذه الجهود باءت بالفشل مع استمرار اتساع ميزان التجارة والمدفوعات. واستمر دين الحكومة الأمريكية في التصاعد بمعدل أُقر بأنه 'غير مستدام'.
ما تمكنت الولايات المتحدة من مواصلة مسارها نحو الديون إلا بفضل دور الدولار كعملة احتياطية عالمية. فطالما حافظ المستثمرون، المحليون والدوليون، بالإضافة إلى الحكومات الأخرى، على تدفق الأموال إلى سوق الدين، تمكنت الدولة الإمبريالية الأمريكية، بإنفاقها العسكري الهائل، من مواصلة عملها.
ففي عام 2023، شرح فريد زكريا، المعلق الإخباري في شبكة CNN، هذه العلاقة قائلاً: ' اعتاد السياسيون الأمريكيون على الإنفاق دون أي قلق ظاهري بشأن العجز، إذ ارتفع الدين العام خمسة أضعاف تقريباً من حوالي 6.5 تريليون دولار قبل 20 عاماً إلى 31.5 تريليون دولار اليوم. و حلّ الاحتياطي الفيدرالي سلسلة من الأزمات المالية بتوسيع ميزانيته العمومية بشكل هائل اثني عشر ضعفًا، من حوالي 730 مليار دولار قبل 20 عاماً إلى حوالي 8.7 تريليون دولار اليوم. كل هذا ينجح فقط بفضل المكانة الفريدة للدولار. إذا تراجعت هذه المكانة، فستواجه أمريكا حساباً ما سبق له مثيل.' في مواجهة هذه الأزمة، يُروّج في بعض الأوساط لفكرة مفادها أنه مهما كانت مصاعب الدولار، فإنه سيظل العملة العالمية.
استشهد مقال فاينانشال تايمز حول أزمة الدولار بتصريحات مارك سوبيل، المسؤول السابق في وزارة الخزانة الأمريكية والرئيس الحالي لمركز أبحاث مالي أمريكي يُدعى OMFIF.
قال: 'ستبقى هيمنة الدولار قائمة في المستقبل المنظور لعدم وجود بدائل مجدية'. وأضاف: 'أتساءل عما إذا كانت أوروبا قادرة على تنظيم أمورها، والصين لن تفتح حسابها الرأسمالي قريباً. فما البديل إذاً؟ ببساطة، لا يوجد بديل'.
لا شك أن تأكيدات سوبل حول عجز أوروبا والصين عن توفير بديل للدولار صحيحة.
لكن تحليله ناقص لأنه مبني على منطق خاطئ يتجاهل دروس التجربة التاريخية. فهو ارتكز على افتراض أنه بما أن التجارة والتمويل العالميين يتطلبان عملة دولية، فيجب على الدولار بالتالي أن يستمر في لعب هذا الدور لأنه لا يوجد بديل له.
ومع ذلك، فإن منطق الوضع الحالي لا يتمثل في إمكانية استمرار دور الدولار، ولا في أن عملة وطنية أخرى ستحل محله. بل يتمثل في أن الاقتصاد العالمي سيتصدع بشكل متزايد إلى كتل تجارية ومالية ونقدية متنافسة، أي صراع الكل ضد الجميع، كما حدث بين الحربين العالميتين وما نتج عنه من عواقب وخيمة.
على الرغم من كل ما تتسم به سياسات ترامب من لاعقلانية وجنون مُطلق، إلا أن لها منطق. فكل تصريح وأمر تنفيذي يصدره يُبرَّر بدعوى الأمن القومي، أي أن النظام الاقتصادي الحالي قوّض القدرة العسكرية للولايات المتحدة على خوض الحروب، ويجب تصحيح هذا الوضع مهما كلف الأمر.
لذا، تُشير أزمة الدولار إلى أن ظروف حرب عالمية جديدة تتطور بسرعة، وتكون الصين، التهديد الوجودي لهيمنة الولايات المتحدة، الهدف الرئيسي.
مع تحديد الرسوم الجمركية بنسبة 145%، وزيادات أخرى مُرتقبة، وفرض قيود على تصدير السلع عالية التقنية إلى الصين، فرضت الولايات المتحدة حصاراً اقتصادياً فعلياً على بكين. فمتى سيقود ذلك إلى صراع عسكري مُطلق؟ يُشير التاريخ إلى أن ذلك سيحدث عاجلاً وليس آجلاً.
لا تملك الطبقات الحاكمة في الولايات المتحدة والعالم حلاً لأزمة النظام الرأسمالي الذي تحكمه. ففي كل مكان، يتمثل ردها على الانهيار في الحرب الاقتصادية، وزيادة الإنفاق العسكري، وسلب الحقوق الديمقراطية من خلال فرض أنظمة فاشية واستبدادية.
الطبقة العاملة العالمية هي القوة الاجتماعية الوحيدة القادرة على حل الأزمة التاريخية للنظام الرأسمالي بطريقة تقدمية، و هي الأزمة التي تتجلى بوضوح في أزمة الدولار. ولكن لكي تتحقق هذه القوة، يجب أن تحتضن وتكافح من أجل منظور الثورة الاشتراكية.