العربية

صندوق النقد الدولي: حرب ترامب الجمركية ستُسبب "تباطؤاً ملحوظاً" في الاقتصاد العالمي

انعكست الفوضى التي غرق فيها الاقتصاد العالمي نتيجة الحرب الاقتصادية التي شنها الرئيس الأمريكي ترامب على العالم في تقرير آفاق الاقتصاد العالمي الصادر عن صندوق النقد الدولي أمس.

اضطر صندوق النقد الدولي، في فصله الافتتاحي، الذي قدم فيه توقعاته للنمو العالمي، إلى إعادة صياغة كاملة بعد إعلان ترامب في الثاني من أبريل، بمناسبة 'يوم التحرير'، فرض 'رسوم جمركية متبادلة' شاملة على مجموعة واسعة من الدول، وفرض رسوم جمركية بنسبة 145% على الصين، وزيادة الرسوم الجمركية بنسبة 10% على جميع الدول الأخرى.

في ظل الظروف التي وصفت فيها رئيسة صندوق النقد الدولي، كريستالينا جورجيفا، 'بأن معدل انعدام اليقين في السياسة التجارية قد تجاوز كل التوقعات'، أعلن الصندوق أنه اضطر إلى التخلي عن ممارسته المتمثلة في إصدار 'توقعات أساسية'. ما كان بإمكانه سوى تقديم 'توقعات مرجعية'، وتلك طريقة مُلطفة للقول إنه ليس لدينا أدنى فكرة عما سينتج عن انهيار إطار التجارة الدولية.

بقدر ما قدمت توقعات، فقد حذّرت من تزايد خطر الركود في الولايات المتحدة، الأمر الذي سيؤدي إلى انخفاض النمو الأمريكي بنسبة تقارب 1% هذا العام، وحذرت من 'تباطؤ كبير' في الاقتصاد العالمي ككل.

وخُفضت توقعات اقتصادات مجموعة السبع الرئيسية إلى جانب الصين والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا. ومن المتوقع أن يكون النمو في ألمانيا، ثالث أكبر اقتصاد في العالم، صفراً هذا العام.

ودعت الدول إلى 'حل خلافاتها على وجه السرعة'، دون تسمية الولايات المتحدة مباشرة، وقالت إنه إذا استمرت 'الزيادة المفاجئة في الرسوم الجمركية وما يصاحبها من عدم يقين، فستؤدي إلى تباطؤ كبير في النمو العالمي'. وخفض صندوق النقد الدولي توقعاته للنمو العالمي لهذا العام إلى 2.8% من 3.3% التي توقعها في يناير الماضي.

وقال كبير الاقتصاديين في صندوق النقد الدولي، بيير أوليفييه غورينشاس، إن احتمال حدوث ركود في الولايات المتحدة أصبح الآن 40%، مقارنة بـ 25% في تقريره السابق.

أشار في مقابلة إلى أن 'الخطر الرئيسي الذي يواجهنا هو احتمال تصعيد إضافي في الرسوم الجمركية والتوترات التجارية. وهناك أيضاً خطر تفاقم الأوضاع المالية أكثر من أي وقت مضى'.

جاء في مقدمة تقرير آفاق الاقتصاد العالمي، إن الجمع بين التدابير والإجراءات المضادة رفع معدلات التعريفات الجمركية الأمريكية والعالمية إلى مستويات ما شهدناها منذ قرن. لكن التقرير أشار إلى أن الوضع قد يكون أكثر خطورة مما كان عليه في العقد الرابع من القرن الماضي الكارثي عندما كادت التجارة العالمية أن تنهار.

وإذ أشار إلى أن سياق زيادات التعريفات الجمركية مختلف تماماً اليوم، تابع: 'على عكس القرن الماضي، يتميز الاقتصاد العالمي الآن بدرجة عالية من التكامل الاقتصادي والمالي، حيث تتقاطع سلاسل التوريد والتدفقات المالية حول العالم، التي قد يشكل تفككها المحتمل مصدراً رئيسياً للاضطرابات الاقتصادية'.

و تفاقم تأثير زيادات التعريفات الجمركية 'في ظل وجود سلاسل توريد معقدة حديثة' حيث تكون معظم السلع المتداولة مدخلات وسيطة تعبر البلدان عدة مرات قبل تحويلها إلى منتجات نهائية. ونتيجة لذلك، 'يمكن أن تنتشر الاضطرابات القطاعية صعوداً وهبوطاً في المدخلات والمخرجات العالمية بطرق ذات آثار مضاعفة كبيرة محتملة'، كما حدث في الجائحة.

وفي حديثه عن التقرير، قال: 'نحن ندخل حقبة جديدة حيث يتم إعادة ضبط النظام الاقتصادي العالمي الذي عمل خلال السنوات الثمانين الماضية'.

هذا تقليلٌ كبيرٌ من شأن الوضع، كما يعلم غورينشاس وجميع المسؤولين في المؤسسات العالمية التي يُفترض أنها تدير شؤون رأس المال العالمي

لا يُعاد ضبطه، بل هُشِّم ولا يُمكن إعادة بنائه. لقد هيأت الظروف لصراعٍ عالميٍّ ضارٍ بين القوى الرأسمالية الكبرى، كلٌّ ضدّ الآخر، مُعيدةً إلى الأذهان صراع العقد الرابع من القرن الماضي، ومُهيّئةً الظروف للحرب، كما حدث في ذلك العقد.

سيكون من الخطأ الجسيم اعتبار هذا مجرد نتيجةٍ لأفعال ترامب. لقد كان بمنزلة مُحفّز، مُشعلاً انفجاراً كانت ظروفه قيد الإعداد منذ زمن.

ناشدت جورجيفا العالم في خطابٍ ألقته الأسبوع الماضي 'التصرف بحكمة'، مُدّعيةً أن اقتصاداً عالمياً 'أكثر توازناً' و'أكثر مرونة' 'في متناول اليد'، لتنقض هذا التقييم فوراً.

قالت: 'التوترات التجارية أشبه بوعاء كان يغلي لفترة طويلة، وهو الآن يفور. ما نراه، إلى حد كبير، هو نتيجة تآكل الثقة، الثقة في النظام الاقتصادي الدولي والثقة بين الدول'.

قبل فترة طويلة من عودة ترامب إلى السلطة لولاية جديدة، أشار صندوق النقد الدولي إلى ما أسماه 'التشرذم الجيواقتصادي' الذي تطور بعد الأزمة المالية عام 2008 وسط ارتفاع في التعريفات الجمركية والحواجز التجارية. جاء ذلك على الرغم من التزام دول مجموعة العشرين الجاد في اجتماعها بلندن في أبريل 2009 بعدم استخدام التعريفات الجمركية، إدراكاً منها لعواقبها الكارثية التي شهدها العقد الرابع من القرن الماضي.

وأعرب عن بعض الآمال في أن المفاوضات مع الدول المتضررة من التعريفات الجمركية المتبادلة خلال فترة التوقف التي لمدة 90 يوماً قبل تطبيقها قد تُخفف من حدة الوضع.

ولكن كما أشارت صحيفة فاينانشال تايمز في تقريرها عن تقرير آفاق الاقتصاد العالمي، خلص صندوق النقد الدولي إلى أنه 'حتى لو أُجّلت الرسوم الجمركية إلى أجل غير مسمى، فلن يُغيّر ذلك جوهرياً التوقعات في توقعاته المرجعية. ويرجع ذلك إلى حجم الحواجز التجارية القائمة بين الولايات المتحدة والصين، أكبر اقتصادين في العالم'.

ومع ذلك، فإن حرب الرسوم الجمركية ليست سوى تعبير واحد عن الانهيار المتفاقم للنظام الرأسمالي العالمي برمته، الذي ارتكز، في نهاية المطاف، على القوة الاقتصادية والمالية لقوته المهيمنة، الولايات المتحدة.

حتى مع تزايد مخاوف انهيار النظام المالي الأمريكي ، لا سيما في عام 2008 وفي آذار/مارس 2020 ، وفّر سوق سندات الخزانة الأمريكية والدولار ملاذاً آمناً لرأس المال المالي الأمريكي والدولي. ولكن ما عاد الأمر كذلك.

الموضوع السائد في الأسواق المالية العالمية هو 'بيع الولايات المتحدة'. شهدت وول ستريت تراجعاً، وتراجع الطلب على سندات الخزانة الأمريكية، التي يُفترض أنها أكثر الأصول المالية أماناً في العالم، وانخفضت قيمة الدولار مقابل العملات الأخرى، وارتفع سعر الذهب، الذي يُنظر إليه بشكل متزايد على أنه المخزن الوحيد للقيمة الحقيقية، وسط تقلبات، بلغت مستويات قياسية.

تتفاقم الأزمة بسبب انعدام القانون المطلق لنظام ترامب، كما يتضح في المجال المالي من تهديداته الأسبوع الماضي، والتي كررها يوم الاثنين، بإقالة رئيس مجلس التحوط الفيدرالي الأمريكي، جيروم باول.

أمس، وبعد إغلاق الأسواق، صرّح ترامب بأنه 'لا ينوي' إقالة باول بعد تلقيه نصيحة بأن مثل هذه الخطوة ستؤدي إلى أزمة ثقة كبيرة في الأسواق الدولية وتؤدي إلى عمليات بيع واسعة النطاق.

أُثيرت مسألة الثقة في افتتاحية مجلة الإيكونوميست اللندنية بعنوان 'كيف ستتطور أزمة الدولار'.

'ما يجعل هذا التباطؤ الاقتصادي وفقدان الانضباط المالي قابلين للانفجار إلى هذا الحد هو أن الأسواق بدأت تشك في قدرة السيد ترامب على حكم أمريكا بكفاءة أو استمرارية'.

ما كان نظام الدولار مثالياً، لكنه وفّر 'الأرضية المستقرة' التي ُبُني عليها الاقتصاد العالمي. 'عندما يشكك المستثمرون في الجدارة الائتمانية لأمريكا، تُصبح هذه الأسس مُعرّضة لخطر التصدع'.

مع ذلك، يُعدّ حتى هذا التقييم الجاد، مع ذلك، استخفافاً بعمق الأزمة العالمية من جانبين مهمين.

أولاً، مع أن تصرفات ترامب فاقمت الأزمة بلا شك، إلا أنه ليس السبب الكامن. بل إن أفعاله نبعت من الأزمة العميقة التي تعيشها الدولة الأمريكية، التي تجلت في ارتفاع الدين الحكومي إلى 36 تريليون دولار، وهو مسار يُعتبر عالمياً 'غير مستدام'، وفي عجز الميزان التجاري المتزايد باستمرار.

ثانياً، لم تتصدع أسس النظام الاقتصادي والمالي العالمي فحسب، بل إن انهيارها، نتيجة عمليات تطورت قبل وقت طويل من وصول ترامب إلى السلطة، جارٍ على قدم وساق.

تُعبّر تقلبات ترامب وتناقضات سياساته التي لا حل لها عن أزمة موضوعية.

فعلى سبيل المثال، فيما يتعلق بالمسألة الرئيسية المتعلقة بالدولار الأمريكي، يريد ترامب من جهة أخرى أن يرى انخفاضه، وهو ما سيؤدي إليه خفض أسعار الفائدة الذي طالما طالب به. ويهدف هذا إلى تحسين الوضع التنافسي للولايات المتحدة في الأسواق العالمية وخفض العجز التجاري. ومن ناحية أخرى، يصر على أن الدولار يجب أن يحتفظ بمكانته كعملة احتياطية عالمية، وهي المكانة التي تتطلب دولاراً قوياً.

يشبه ترامب لاعباً في لعبة شطرنج فهو يواجه وضعاً اقتصادياً صعباً، إذ يتعين عليه اتخاذ خطوة، لكن كل خطوة تزيد من سوء وضعه. فيرد بركل رقعة الشطرنج.

يعني هذا في الوضع الراهن أنه لا توجد خطوات أو سياسات في المجال الاقتصادي قادرة على حل الأزمة. وبالتالي، سيلجأ نظام ترامب بشكل متزايد إلى 'الوسائل الميكانيكية' أي الحرب، التي ستُعتبر بشكل متزايد السبيل الوحيد للخروج.

وسيزداد هذا اللجوء إلى العسكرة، مصحوبًا بهجمات متفاقمة على الحقوق الاجتماعية والديمقراطية للطبقة العاملة في الداخل، في ظل ظروف، كما أشار تقرير صندوق النقد الدولي، يتجه فيها الاقتصاد العالمي نحو الانكماش.

Loading